رحلة الجذور على ضفاف النيل
حكت لي أمي كيف حصلت على أسمها “مصرية”، عندما سافر أبيها من الصعيد إلى القاهرة بحثا عن عمل، وصله بعد قليل خبر مولد طفلته في إسنا “مركز إدفو” بأسوان حيث تُقيم عائلته، فأخبرهم أن أسمها سيكون مصرية لأنه رُزق بوجودها العمل في العاصمة.
لم يكن جدي لأمي وحده الذي ترك أرضه في الصعيد، بل أن أبي أيضا سافر إلى العاصمة بحثا عن فرصة عمل، مثله مثل المئات من الباحثين عن مستقبل أفضل لهم ولأسرهم بعد أن ضاق بهم الحال في الزراعة.
وعلى الرغم من تلك الهجرة، إلا أن غالبية من هجروا أرضهم يعودون لزيارة من تبقى من أسرهم في قراهم البعيدة، وكانت رحلتنا السنوية إلي الصعيد بالنسبة لي بمثابة الوصول إلى أرض السعادة، أرض السكر كما أحب تسميتها، حيث أشهر ملمح هو أعواد قصب السكر اللامعة التي أعشقها.
لم تكن تلك الرحلة في أسرتي فقط من أجل الحنين ومد الود بين الأهل، ولكن أيضا للتبرك من مياه النيل، وهو الطقس الذي لم يتخلى عنه أفراد أسرتي، فأنا المولودة في العاصمة سافرت بي أمي إلى قريتها وغسلت وجهي بمياه النيل، كما فعلت مع أشقائي، وهو ما فعلته أنا أيضا فيما بعد مع أبني. وقالت لي أمي إنها عادة فرعونية، فمن تمس وجهه مياه النيل لا يستطيع أن يعيش بعيدا عنه مدة طويلة.
كانت أمي تفضل قطع الرحلة في القطار كما كانت تحكي لي لأنها كانت تقضيها برفقة أسرتها يغنون ويرقصون طوال الطريق.
كانت حكايتها تستحضر في ذهني أغنية “يا مقبل بين خضرة ومية.. أمتى نلقى ابو وجه مليح.. وح نوصل غــد ولا عشية.. روح بنا روح سابق الريح” الأغنية التي غناها المطرب فريد الأطرش في فيلم “أنت حبيبي” خلال رحلته في قطار متوجها إلى الصعيد، يبدو فيها الركاب سعداء، يغنون ويصفقون، وترقص راقصة جميلة في ممرات القطار.
إلا أني أفضل قطع الرحلة بسيارة والدي، لأنها رحلة طويلة تستغرق حوالي أثنى عشرة ساعة برفقة أبي، وإن كان قليل الكلام ويكتفي بالابتسامة، ولكنه مثل الكثيرين يعمل في أكثر من وظيفة ولا يتسنى لي لقائه، ولكن في رحلتنا إلى الصعيد يمكنني قضاء وقت أطول معه.
نبدأ الرحلة بتوديع المباني الأسمنتية المتزاحمة، يستقبلنا الطريق المحاذي لنهر النيل فتبدأ متعتي الحقيقية بالتطلع إلى الخضرة، وتستمر الرحلة بمحاذاة النهر، أنعس واستيقظ أجده لم يتركنا بعد ويرافقنا في رحلتنا.
تروي لي أمي كيف كان “البحر” كما يطلق أبناء الصعيد على نهر النيل مسئولا عن تزويج فتيات البلد، “المياه مكنتش بتوصل للبيوت فكانت الستات تروح للبحر كل يوم تملى المياه.. وإحنا كنا نعلق الصدف في شعرنا عشان يعمل صوت والرجالة تشوفنا ويختاروا العرايس” تضحك أمي مصرية وهي تحكي عن ذكرياتها، وتستكمل باقي تفاصيل رحلة النساء بالمرور على مقابر أجدادهم ويروين الزرع ويقرآن القرآن. إلا أن أمي قابلت والدي في القاهرة وأحببته وتزوجته.
تعرف جدي وجدتي بسبب نهر النيل كما تروي الحكاية العالية، كانت جدتي في طريقها إلى البحر لتحضر المياه ورأها جدي، أعجب بها وتزوجها.
ويبدو أن سحر المياه ممتد في أسرتنا، وحكت لي أمي أن جدها تعرف على جدتها بسبب كوب مياه، ففي أحد مرات مرور جدها بقرية جدتها، شعر بالعطش وطرق أول باب أمام فكان منزل جدتها، فقدمت له المياه، أحبها وتزوجها وعاش معها في قريتها.
خيرات البحر “نهر النيل” على أبناء القرية والغرباء، روتها لي أمي، فكانت مياه النهر تربطهم بالخير والفرحة، بل والحزن كان يكفي وصفه بلون النيل “اتنيل” الكلمة العامية لوصف طمي النيل الذي استخدمته النساء لطلي وجههم في أوقات الحزن والشدة وفي المقابر. ولكن جدتي ” مريم ” التي تبلغ من العمر ٩١ عاماً تقول إن روح المنزل جف مع اقتلاع جذور الأشجار من الأرض المحيطة به، منذ أن قررت الحكومة منع الزراعة داخل أحواش المنازل القريبة من النيل بدون دفع الضرائب لأنه استغلال شخصي.
كان أبي يستغل رحلتنا السنوية في سرد تاريخ أسرته التي تنتمي إلى قبيلة “الجعافرة”، التي بدأت هجرتها من شبه الجزيرة العربية واستقرت في عدة دول في قارة أفريقيا مثل مصر والسودان والمغرب.
وفي مصر اختارت القبيلة التي تنتمي لها أسرتي، الجنوب لتستقر في المنطقة حيث يحتضن الجبل ضفتي نهر النيل، الطبيعة الجبلية التي تتشابه مع البيئة التي نشأوا فيها ولكن في حضور النيل بخضرته وخيره، وجذبتهم الزراعة، ولكن قصب السكر صار محصولهم الذي افتتنوا به كما افتتن الصعيد بأكمله.
حكايات والدي خلال رحلاتنا إلى الصعيد، كان يرممها لي دوما، الدفاتر التي اعتمدت عائلتي تدوينها بخط اليد، وأهمها كتب “الجرد”، وهي السجلات التي تدون فيها القبيلة نسلها، ويضاف إليها كافة المواليد، ليتم حفظ النسل.
وقرأت في إحدى الكتب القديمة التي أحتفظ بها أبي في منزلنا، عن هجرة قبيلتنا “الجعافرة” من صحراء شبه الجزيرة العربية، إلى مصر وتركز كثيرون في الصعيد، وتقول النصوص: “كان انتقال السيد الجعفر الأصغر في سنة ٤١٣ هـ من الحجاز إليها.. وذكر الإمام الشريف بن عتبة الحسيني في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ” وقال ما لفظه؛ أن حسن بن جعفر بن علي الرضا عقبه ببادية المدينة يقال لهم الشجريون”.
الشجريون هكذا فسرت سبب رسم أبي لتلك الشجرة التي تحوي أسماء عائلتنا على أوراق الشجر والتي تتدرج وصولا إلى جدي الحسن والحسين، وكلما رزق بحفيد أضاف أسمائهم على تلك الشجرة.
في قريتنا الجبلية الصغيرة حيث يعيش جدي يالقرب من مقام “الشيخ علي” حيث تذهب النساء يوميا إليه، يحملون المياه لري الزرع والعصافير ويجلسن هناك.
كان جدي يعمل بالزراعة، ومثلما اهتم بالأرض وما ينبت منها، اهتم برسم شجرة العائلة التي تنحدر من نسل الحسن والحسين احفاد الرسول محمد. وكان يضيف إليها دوما أحفاد قريتهم الذين يولدون يوم بعد يوم، ولكن لم تعد هذه أحوال القرية الآن بعد أن هجرها الكثير من ابنائها إلى بقاع شتى بحثا عن الرزق.
رحلتنا إلى بيت جدي الطويلة تنتهي بالوصول إلى المنزل والتجمعات العائلية لاستقبال العائدين، وكان جدي يعطينا بذور النباتات لنسميها بأسمائنا ونضعها في حديقة المنزل ونرويها بأيدينا، ونعود إليها فيما بعد في زياراتنا المتباعدة لنجدها قد صارت نباتات طويلة، كبرت معنا يوم بعد يوم.
ولكن في أحد المرات التي سافرنا فيها، وجدنا الحديقة خالية من الأشجار وزرعنا، وأخبرنا جدي أن الحكومة أرغمته على تجريف الزرع واعتبرته انتفاع شخصي ضد قانون الإصلاح الزراعي، في هذا اليوم وقف أبي بجوار النخلة الوحيدة المتبقية في الحديقة والتقط صورة تذكارية.
يبلغ إنتاج مصر الحالي من السكر حوالي 2.4 مليون طن: 62 بالمائة من بنجر السكر و 38 بالمائة من قصب السكر. زاد إنتاج بنجر السكر في السنوات الأخيرة بينما انخفض إنتاج قصب السكر.
يعتمد اقتصاد صعيد مصر بشكل كبير على إنتاج قصب السكر ، على الرغم من محاولات الحكومة للحد من قصب السكر وزيادة إنتاج بنجر السكر بدلاً من ذلك ، والذي يستهلك كميات أقل من المياه. يُروى قصب السكر فقط باستخدام مياه نهر النيل ، بينما يمكن زراعة بنجر السكر في تربة مستصلحة باستخدام أنظمة الري السطحي الحديثة ، وفقًا لتحليل الموارد المائية الاستراتيجي لعام 2019 من قبل مبادرة حوض النيل.
أرض السكر بالنسبة لي لم تعد كذلك بالنسبة إلى أهلها، بعد أن تغيرت طبيعة حياتهم ونشاطهم الزراعي الذي تأثر بعوامل عديدة، كشف لي بعضها ابن قريتنا نور (٥٤ عاما)، وقال لي "القصب طالع عيان.. لأن المرض ده انتشر عندنا كلنا.. لكن الحكومة مش بتساعدنا ولا حتى بالمبيد الحشري عشان المحصول يطلع كويس". لمست نبرة الآسى خلال حديثه عن محصوله من القصب، في الأرض التي ورثها عن أجداده الذين اعتادوا زراعة قصب السكر.
ويبدو من حديث نور أن التحديات التي تواجه مزارعي صعيد مصر للاستمرار في زراعة قصب السكر كبيرة، في ظل عدم إمكانية استبداله ببنجر السكر لأنه لا يصلح في الصعيد، كما يوضح نور.
يتمسك نور بما ورثه عن أجداده، ولكنه لتخفيف تكاليف الزراعة، يعمل مع مربين المواشي، وفي المقابل يساعدونه في حصاد المحصول بدون مقابل مادي ولكن بالحصول على علف للمواشي من قش القصب.
يذكر كتاب "حكم الخبراء" للباحث البريطاني تيموتي ميتشل "عن عبود صاحب مزارع السكر أو أحمد عبود باشا والذي كان محتكر الأساسي لزراعة السكر نظراً لعلاقته الجيدة مع الإنجليز في ذلك الوقت. علي الرغم انه يعتمد على زراعة القصب السكر المئات من الأهالي الذين يعيشون في الصعيد لتناسبه مع الجو ووفرة مياه النيل الملائمة لنموه هناك. إلا أنه أشتهر عبود رجل الأعمال الذي كان يمتلك إمبراطورية كبرى من شركات تعمل في مجال السكر وتبلغ قيمتها إلى ملايين الدولارات".
تلك الفترة كما يوضح الباحث ازدادت هجرة الشباب من الصعيد وكذلك الكبار الذين كانوا يتركون أراضيهم بعد ما عانت من الاحتكار أرضهم، وكانوا يسيرون على أقدامهم إلى القاهرة.
من رفض ترك أرضه تفاقمت معاناته، يروي لي صبري الدورباز (٤٥عاما)، أحد أبناء القرية أن أرضه لا تبعد كثير عن نهر النيل لكنها تعاني العطش، ويقول "المحاصيل مريضة عايزة سماد.. والمياه مش بتوصل لنا كويس.. فالدولة بتقول لنا بطلوا زراعة قصب".
ويحتاج صبري إلى المساعدة في حصاد محصوله، فتقدمها له جيهان التي تبلغ ١٦ عاماً، ابنة شقيقته وطالبة في المدرسة، "القصب غير إنه عيان.. لكن طعمه كمان مختلف غير زمان" تقول جيهان عن التغيير الذي طرأ على الأرض.
لا يمكن قياس التغير الذي طرأ على الزراعة والأرض في مصر بدون أدوات الدراسات الحديثة الرصدية والبحثية، ولكن على المستوى الاجتماعي يمكن متابعة تغيير نشاط الأبناء جيل خلف جيل، وهجر الزراعة لصالح أنشطة أخرى، ولعل هجرة الأرض ذاتها صار نهج الكثيرين.
"أليس من الأفضل أن نهاجر بدلاً من أن نتزوج؟ فالزواج هجرة داخلية" يقول كاتبنا العظيم الحاصل على نوبل نجيب محفوظ في روايته "الحب تحت المطر".
إلا أن أبي وغيره من أبناء قريتنا وأرض السكر، هجروا أراضيهم وتزوجوا أيضا، إلا أن الحنين إلى تلك الأرض وبركة نهر النيل توارثناها نحن أبناء هؤلاء المهاجرون، ومدينون للبحر "نهر النيل" وبركاته.
This #EverydayNile story was supported by InfoNile with funding from IHE-Delft Global Partnership for Water and Development.